الدعاء والقدر
هاهنا سؤال مشهور وهو:
أن المدعو به إن كان قد قدر لم يكن بد من وقوعه، دعا به العبد أو لم يدع، وإن لم يكن قد قدر لم يقع، سواء سأله العبد أو لم يسأله.
فظنت طائفة صحة هذا السؤال، فتركت الدعاء وقالت: لا فائدة فيه، وهؤلاء مع فرط جهلهم وضلالهم، متناقضون فإن طرد مذهبهم يوجب تعطيل جميع الأسباب فيقال لأحدهم:
إن كان الشبع والري قد قدرا لك فلابد من وقوعهما، أكلت أو لم تأكل، وإن لم يقدرا لم يقعا أكلت أو لم تأكل.
وإن كان الولد قدر لك فلابد منه، وطئت الزوجة أو الأمة أو لم تطأ، وإن لم يقدر لم يكن، فلا حاجة إلى التزويج والتسري، وهلم جرا.
فهل يقول هذا عاقل أو آدمي؟ بل الحيوان البهيم مفطور على مباشرة الأسباب التي بها قوامه وحياته، فالحيوانات أعقل وأفهم من هؤلاء الذين هم كالأنعام بل هم أضل سبيلا.
وتكايس بعضهم وقال: الاشتغال بالدعاء من باب التعبد المحض يثيب الله عليه الداعي، من غير أن يكون له تأثير في المطلوب بوجه ما ولا فرق عند هذا المتكيس بين الدعاء والإمساك عنه بالقلب واللسان في التأثير في حصول المطلوب، وارتباط الدعاء عندهم به كارتباط السكوت ولا فرق.
وقالت طائفة أخرى أكيس من هؤلاء: بل الدعاء علامة مجردة نصبها الله سبحانه أمارة على قضاء الحاجة، فمتى وفق العبد للدعاء كان ذلك علامة له وأمارة على أن حاجته قد انقضت، وهذا كما إذا رأيت غيما أسود باردا في زمن الشتاء، فإن ذلك دليل وعلامة على أنه يمطر.
قالوا: وهكذا حكم الطاعات مع الثواب، والكفر والمعاصي مع العقاب، هي أمارات محضة لوقوع الثواب والعقاب لا أنها أسباب له.
وهكذا عندهم الكسر مع الانكسار، والحرق مع الإحراق، والإزهاق مع القتل ليس شيء من ذلك سببا البتة، ولا ارتباط بينه وبين ما يترتب عليه، إلا مجرد الاقتران العادي، لا التأثير السببي وخالفوا بذلك الحس والعقل، والشرع والفطرة، وسائر طوائف العقلاء، بل أضحكوا عليهم العقلاء.
وللصواب أن هاهنا قسما ثالثا، غير ما ذكره السائل، وهو أن هذا المقدور قدر بأسباب، ومن أسبابه الدعاء، فلم يقدر مجردا عن سببه، ولكن قدر بسببه، فمتى أتى العبد بالسبب، وقع المقدور، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور، وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب وقدر الولد بالوطء، وقدر حصول الزرع بالبذر، وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه، وكذلك قدر دخول الجنة بالأعمال، ودخول النار بالأعمال، وهذا القسم هو الحق، وهذا الذي حرمه السائل ولم يوفق له.
جامعة المدينة العالمية
http://www.mediu.edu.my/ar/كلية العلوم الإسلامية
http://www.mediu.edu.my/ar/?page_id=158